فصل: من فوائد الشعراوي في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثَّالِثُ: لَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بِفِعْلِ مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ؛ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَالْأَكْثَرُ مِنْ الْعُلَمَاءِ.
وَكُلُّهَا صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَقْعَدَ مِنْ بَعْضٍ فِي الدِّينِ مِنْ اللَّفْظِ وَاسْتِيفَاءِ الْمَعْنَى.
وَاَلَّذِي يَصِحُّ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَاهُ: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بِفِعْلِ مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ، فَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَهُ، وَلَكِنَّ هَاهُنَا دَقِيقَةٌ مِنْ النَّظَرِ؛ وَهِيَ أَنَّ هَذَا الَّذِي اخْتَرْنَاهُ يَسْتَوْفِي الْمَعْنَى، وَلَكِنَّهُ مَجَازٌ فِي لَفْظِ الْقَتْلِ، وَعَلَى حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى صَرِيحِ الْقَتْلِ يَكُونُ قَوْلُهُ: {أَنْفُسَكُمْ} مَجَازًا أَيْضًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْمَجَازِ فَمَجَازٌ يَسْتَوْفِي الْمَعْنَى وَيَقُومُ بِالْكُلِّ أَوْلَى؛ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}، فَتَدَبَّرُوهُ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا}:
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِعْلَ النَّاسِي وَالْخَاطِئِ وَالْمُكْرَهِ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَا تَتَّصِفُ بِالْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ، إلَّا فَرْعٌ وَاحِدٌ مِنْهَا وَهُوَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ، فَإِنَّ فِعْلَهُ يَتَّصِفُ إجْمَاعًا بِالْعُدْوَانِ؛ فَلَا جَرَمَ يُقْتَلُ عِنْدَنَا بِمَنْ قَتَلَهُ، وَلَا يَنْتَصِبُ الْإِكْرَاهُ عُذْرًا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا}:
اُخْتُلِفَ فِي مَرْجِعِهِ؛ فَقِيلَ إلَى مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} إلَى هَاهُنَا؛ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ وَعِيدُهُ فِيهِ.
وَقِيلَ: إنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْكُلِّ؛ لِأَنَّ كَوْنَ وَعِيدِهِ جَاءَ مَعَهُ مَخْصُوصًا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْعُمُومِ أَيْضًا؛ إذْ لَا تَنَاقُضَ فِيهِ؛ بَلْ فِيهِ تَأْكِيدٌ لَهُ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَاهُنَا دَقِيقَةٌ أَغْفَلَهَا الْعُلَمَاءُ؛ وَذَلِكَ أَنَّهَا إذَا نَزَلَتْ لَا نَعْلَمُ هَلْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ مَا سَبَقَهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إلَى هُنَا مُنَزَّلًا مَكْتُوبًا، أَمْ نَزَلَ جَمِيعُهُ بَعْدَ نُزُولِهَا؟ وَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ تَقَدَّمَ نُزُولًا وَكِتَابَةً لَا يَقْتَضِي قَوْلُهُ ذَلِكَ إشَارَةً إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ دُونَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ دُونَ جَمِيعِ مَا فِيهِ مِنْ مَمْنُوعٍ مُحَرَّمٍ.
فَالْأَصَحُّ أَنَّ قَوْلَهُ: {ذَلِكَ} يَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} يَقِينًا؛ وَغَيْرُهُ مُحْتَمَلٌ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ}.
أي: لا يأكل بعضكم أموال بعض.
{بِالْبَاطِلِ} أي: ما لم تبحه الشريعة كالربا والقمار والرشوة، والغضب والسرقة والخيانة، وما جرى مجرى ذلك من صنوف الحيل.
{إِلاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً} أي: معاوضة محضة كالبيع.
{عَن تَرَاضٍ مّنكُمْ} في المحاباة من جانب الآخذ والمأخوذ منه، وقرئ: {تِجَارَةٌ} بالرفع على أن (كان) تامة، وبالنصب على أنها ناقصة، والتقدير: إلا أن تكون المعاملة أو التجارة أو الأموال، تجارة.
قال السيوطيّ في [الإكليل]: في الآية تحريم أكل المال الباطل بغير وجه شرعي، وإباحة التجارة والربح فيها، وأن شرطها التراضي، ومن هاهنا أخذ الشافعيّ رحمه الله اعتبار الإيجاب والقبول لفظًا، لأن التراضي أمر قلبي فلابد من دليل عليه.
وقد يستدل بها من لم يشترطهما إذا حصل الرضا. انتهى.
أي لأن الأقوال، كما تدل على التراضي، فكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعًا، فصح بيع المعاطاة مطلقًا.
وفي [الروضة الندية]: حقيقة التراضي لا يعلمها إلا الله تعالى: والمراد هاهنا أمارته، كالإيجاب والقبول، وكالتعاطي عند القائل به، وعلى هذا أهل العلم، لكونه لم يرد ما يدل على ما اعتبره بعضهم من ألفاظ مخصوصة، وأنه لا يجوز البيع بغيرها، ولا يفيدهم ما ورد في الروايات من نحو: (بعت منك وبعتك) فإنا لا ننكر أن البيع يصح بذلك، وإنما النزاع في كونه لا يصح إلا بها، ولم يرد في ذلك شيء، وقد قال الله تعالى: {تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ} فدل ذلك على أن مجرد التراضي هو المناط، ولابد من الدلالة عليه بلفظ أو إشارة أو كتابة، بأي لفظ وقع، وعلى أي: صفة كان وبأي إشارة مفيدة، حصل. انتهى.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فيه وجهان:
الأول: أن المعنى لا تقتلوا من كان من جنسكم من المؤمنين، فإن كلهم كنفس واحدة، والتعبير عنهم بالأنفس للمبالغة في الزجر عن قتلهم، بتصويره بصورة ما لا يكاد يفعله عاقل.
والثاني: النهي عن قتل الإِنسَاْن نفسه، وقد احتج بهذه الآية عَمْرو بن العاص على مسألة التيمم للبرد، وأقره النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم على احتجاجه، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود، ولفظ أحمد عن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنّهُ قَالَ: لَمّا بَعَثَه رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عَامَ ذَاتِ السّلاَسِلِ- قَالَ- احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلَكَ، فَتَيَمّمْتُ ثُمّ صَلّيْتُ بِأَصْحَابِي صَلاَةَ الصّبْحِ- قَالَ- فَلَمّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «يَا عَمْرُو صَلّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ».
قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّي احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنَ أَهْلَكَ وَذَكَرْتُ قَوْلَ اللّهِ عَزّ وَجَلّ: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فَتَيَمّمْتُ ثُمّ صَلّيْتُ، «فَضَحِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا».
وهكذا أورده أبو داود، قال ابن كثير وهذا، أي: المعنى الثاني، والله أعلم، أشبه بالصواب، وقد توافرت الأخبار في النهي عن قتل الإِنسَاْن نفسه والوعيد عليه.
روى الشيخان وأهل السنن وغيرهم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ- رضى الله عنه- قَالَ: قَالَ رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «مَنْ تَرَدّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهْوَ في نَارِ جَهَنّمَ، يَتَرَدّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسّى سَمّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسَمّهُ في يَدِهِ، يَتَحَسّاهُ في نَارِ جَهَنّمَ خَالِدًا مُخَلّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ في يَدِهِ، يَجَأُ بِهَا في بَطْنِهِ في نَارِ جَهَنّمَ خَالِدًا مُخَلّدًا فِيهَا أَبَدًا».
وأخرج الشيخان عنه رضى الله عنه- قَالَ شَهِدْنَا خَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لِرَجُلٍ مِمّنْ مَعَهُ يَدّعِى الإِسْلاَمَ: «هَذَا مِنْ أَهْلِ النّارِ».
فَلَمّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرّجُلُ أَشَدّ الْقِتَالِ، حَتّى كَثُرَتْ بِهِ الْجِرَاحَةُ، فَكَادَ بَعْضُ النّاسِ يَرْتَابُ، فَوَجَدَ الرّجُلُ أَلَمَ الْجِرَاحَةِ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى كِنَانَتِهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا أَسْهُمًا، فَنَحَرَ بِهَا نَفْسَهُ.
فَاشْتَدّ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللّهِ، صَدّقَ اللّهُ حَدِيثَكَ، انْتَحَرَ فُلاَنٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ.
فَقَالَ: «قُمْ يَا فُلاَنُ، فَأَذّنْ أَنّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ إِلاّ مُؤْمِنٌ، إِنّ اللّهَ يُؤَيّدُ الدّينَ بِالرّجُلِ الْفَاجِرِ». وهذا لفظ البخاريّ.
وروى أبو داود عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: أُخبر النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يرجل قتل نفسه فقال: «لا أصلي عليه».
وفي الصحيحين من حديث جُنْدب بن عبد الله قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ، فَجَزِعَ فَأَخَذَ سِكّينًا فَحَزّ بِهَا يَدَهُ، فَمَا رَقَأَ الدّمُ حَتّى مَاتَ، قَالَ اللّهُ عز وجل: بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ، حَرّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنّةَ». اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآيتين:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ}.
وعندما يريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفت خلقه إلى أن يؤمنوا به يلفتهم إلى الكون، ويلفتهم إلى ما خلق الله من ظواهر ليتأكدوا أن هذه الظواهر لا يمكن أن تكون قد نشأت إلا عن قادر عليم حكيم، فإذا ما انتهوا إلى الإيمان به استقبلوا التكليف الذي يتمثل في افعل كذا ولا تفعل كذا، فحين يخاطبهم بالتكليف يجعل لأمر. التكليف مقدمة هي أنك ألزمت نفسك في أن تدخل إلى هذا التكليف، ولم يرغمك الله على أن تكون مكلفًا، وإنما أنت دخلت إلى الإيمان بالله باختيارك وطواعيتك. وما دامت قد دخلت على الإيمان باختيارك وطواعيتك فاجعل إيمانك بالله حيثية كل حكم يحكم به الله عليك. من افعل كذا ولا تفعل كذا، ولا تقل: لماذا أفعل كذا يا رب، ولماذا لا أفعل كذا يا رب؟ بل يكفي أن تقول: الذي آمنت به إلها حكيمًا قادرًا هو سبحانه مأمون على أن يأمرني وأن ينهاني. ولذلك يجيء الحق دائما قبل آيات التكليف بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} فهو لم يكلف مطلق الناس، وإنما كلف من آمن به.
إذن فحين يكلف من آمن به لا يكون قد اشتط وجار عليه لأنه قد آمن به بمحض اختياره.
وإذا لفتَّ إنسانا ونبهته وأمرته بأمر تكليفي مثل صَلَّ، أو امتنع عن فعل المنكر فقال لك: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} هنا يجب أن تقول له: أنت لم تفهم معنى قول الحق: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} فأصل التدين والإيمان بالله ألاّ يكرهك أحد عليه، بل ادخل إلى الإيمان بالله باختيارك، لكن إذا دخلت إلى الإيمان بالله فالتزم بالسماع من الله في افعل ولا تفعل فحين يقول الحق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} فهو يعطينا حيثيات التكليف، أي علة الحكم. فعلّة الحكم أنك آمنت بالله آلهًا حكيمًا قادرًا. وما دمت آمنت بالله إلهًا حكيمًا قادرًا فسلم زمام الأوامر والنواهي له سبحانه، فإن وقفت في أمر بشيء أو نهى عن شيء فراجع إيمانك بالله.
إذن فقوله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} أي أنك حر على أن تدخل في الإيمان بالله أو لا تدخل، لكن إذا ما دخلت فإياك أن تكسر حكمًا من أحكام الله الذي آمنت به، وإن كسرت حكمًا من أحكام الله تدخل معنا في إشكال ارتكاب السيئات أو الذنوب.
والأحكام التي سبقت للذين آمنوا هي أحكام تعلقت بالأعراض وبإنشاء الأسرة على نظام طاهر نقي كي يأتي التكاثر تكاثرًا نقيًا طاهرًا، وتكلمت الآيات عن المحرمات من النساء وكذلك المحللات؛ وها هو ذا سبحانه يتكلم عن المال، وهو الذي يقيم الحياة، والمال كما نعرف ثمرة الجهد والمشقة، وكل ما يتمول يعتبر مالًا، إلا أن المال ينقسم قسمين: مال يمكن أن تنتفع به مباشرة، فهناك من يملك الطعام، وآخر يملك الشراب، وثالث يملك أثوابا، وهذا نوع من المال ينتفع به مباشرة، وهناك نوع آخر من المال، وهو النقد ولا ينتفع به مباشرة، بل يُنتفع به بإيجاد ما ينتفع به مباشرة.
وهكذا ينقسم المال إلى رزق مباشر ورزق غير مباشر. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي حركة الحياة، لأنه بحماية حركة الحياة يغري المتحرك بأن يتحرك ويزداد حركة. ولو لم يحم الحق حركة الحياة، وثمرة حركة الحياة فماذا يقع؟ تتعطل حركة الحياة.
وإننا نلاحظ أن كل مجتمع لا يؤمن فيه على الغاية والثمرة من عمل الإنسان تقل حركة العمل فيه، ويعمل كل واحد على قدر قوته. ويقول لنفسه: لماذا أعمل؟ لأنه غير آمن. لكن إذا كان آمنًا على ثمرة حركته يغريه الأمن على ماله على أن يزيد في حركة العمل، وحين تزيد حركة العمل فالمجتمع ينتفع وإن لم يقصد المتحرك. فليس ضروريًا أن يقصد الإنسان بكل حركته أن ينفع المجتمع. لا، اجعله يعمل لنفع نفسه.
لقد ضربنا هذا المثل سابقًا: إنسان مثلًا عنده آلاف الجنيهات وبعد ذلك وضعها في خزانة ثم تساءل: لماذا أضعها في خزانة؟ لماذا لا أبني بها بيتًا آخر وأكري منه شقتين، فسيأتيني منه عائد؟ هل كان المجمع في بال مثل هذا الإنسان؟ لا، إن باله مشغول بمصلحته؛ لذلك فلنجعل مصلحة كل إنسان في باله، وهنا سيستفيد المجتمع بحركته قصد أو لم يقصد. لأنه ساعة يأتي ليحفر الأساس سيعطي أناسًا أجورهم؛ وساعة يأتي بالطوب يشتريه بثمن، وساعة يبني يعطي المهندس والعمال أجورهم؛ لذلك أقول: اعمل لنفسك في ضوء شرع الله، وسينتفع المجتمع قهرًا عنك.
ومن العجيب أنك تريد أن تنفع نفسك فيُبَيِّنَ لك ربنا: أنت ستنفع غيرك قبل أن تنتفع بعائد المنزل الذي بنيته، ولا تظن أن أحدًا سيأخذ رزق ربنا ولن يجريه على الخلق، لا، إن المجتمع سينتفع بالرغم منك.